Header Ad

التصنيفات

زجّ الدين في السياسة عملية قتل للدولة

روح الدعابة ملازمة لتواضعه وأدبه الجم، ضحكته أنارت الحوار، وألغت الملل بين سطور الأسئلة والأجوبة، خلع الجبة والعمامة ليرتدي زي الأفندي العراقي، إنه الباحث والسياسي ورجل الدين والشاعر اللبناني هاني فحص، صاحب العديد من المؤلفات منها ماضي لا يمضي ، ذكريات ومكونات عراقية، خطاب القلب، أوراق من دفتر الولد العاملي، ملاحظات في المنهج، المسرح، وغيرها من المؤلفات الفكرية والأدبية. أكد لـ”لمدى” في حوار موسع معها انه يخشى على العمامة من أن تكون في مكان لا يناسبها ، مشددا على ضرورة فصل الدين عن السياسة، لأن التجارب أثبتت ان زج الدين في السياسة هو عملية قتل للدولة وللدين أيضا، مبينا انه لا يتحرج من سماع الأغاني العراقية وخاصة المقام منها، وفي الحوار محاور أخرى، وفي ما يأتي نصه

 مدني بسدارة عراقي

*اليوم نراك خارج الشكل المعتاد الذي نرى فيه هاني فحص، هل هو هروب من الجبة والعمامة، أم ماذا؟

– ستظهر صورتي معك بلباس مدني وسدارة عراقية، يعني أفندي بسدارة، وأنا أريد من خلال هذه الصورة أن يحضر المعنى العراقي، وكذلك المعنى المدني، وهذا لا يعني تخلصا أو هروبا من المعنى الديني، بل أريد أن أرى الديني في المدني، والمدني في الديني ، من دون الوقوف على الشكل ، فمثل ما أحب هذا الزي أنا ايضا أحب العمامة جدا والجبة واحترمها وأخاف عليها جدا، وأخشى عليها احيانا أن تكون في مكان لا يناسبها ، وأنا لدي قضية مهمة مع العمامة، وهي أني أراها ذات دلالة كبيرة معرفية وأخلاقية في تاريخنا العربي والأدبي، دعنا من أصوات التشويش في التأريخ ، دعنا من الشوك والعاقول والحنظل والدغل، فتأريخنا فيه الورد الرازقي والقداح، وفيه رطب برحي، وحتى تمر الزهدي طيب ، فالزهدي عظيم لأنه يشبع الفقراء، وهو غال على الرغم من رخص ثمنه.

* اعتقد أنك تريد أن تصنف العمامة إلى صنفين أحدهما من الورد والآخر من الشوك؟

– لا أريد أن ادخل في مثل هذا التفصيل، فكل تاريخ وكل صنف من الأصناف وكل فئة من الفئات فيها تعدد، وأحيانا تكون الغلبة للجمال والخير والعلم، وأحيانا اخرى تكون للجهل، وكما تعلم ويعلم الآخر أن هناك صراعا إنسانيا بين السلوك المستقيم والآخر المتعرج.

المهم للعمامة عندي رمزيّة كبيرة، وحتى لو ظهرت صورتي من دونها، فهي في قلبي، وكنت أتمنى ان أكون في قلبها، هي في قلبي بما تعمل وليس بما تكسب. سلطة الشيخ لا أريدها

* تحبها وتضعها في قلبك لأنها منحتك سلطة الشيخ مثلا؟

– أبدا، هي في قلبي لا بالسلطة التي تمنحني إياها، أنا حتى سلطة الشيخ لا أريدها، كنتُ رجل دين وبإيمان قوي ، وأسعى يوميا للذهاب إلى قرية في الجنوب اللبناني وأتماثل بقوة مع تلك القرية، كنت أمد يدي على جيوبهم، وعلى قلوبهم ومواجعهم وأحلامهم وبيوتهم ولغتهم، وكانت تجري بيني وبين أهل القرية حوارات حتى في التعليم الديني، وحتى حين عملت في مجالي الأدب والفكر الحديث ، كنت أخاطبهم بالعامية ولم آتِ بخطابي من الخارج، وما كنت فقط في السلطة وإنما كنت أسعى لعمل شراكة في ما بيننا، فإذا رغبت في تعليمهم الصلاة، اذهب إلى الحسينية واطلب من احدهم أن يتوضأ أمامهم، ولطالما حدث شجار بينهم حول كيفية الوضوء والصلاة، وبعد نهاية كل شجار أكون أنا الحكم في ما بينهم.

 الصلاة مع التين والزيتون

* الحَكَم هو من أشعل شرارة الشجار؟

– لا، أنا اعمل ذلك من اجل أن يميزوا الصحيح من الخطأ في الوضوء والصلاة وبقية فرائض الدين، وفي لحظة من اللحظات تذكرت حكاية عن رجل دين قام بالعزوف عن صلاة الجماعة، وعزا الرجل أسباب ذلك الى انه في يوم من الأيام، حين كان يصلي بالناس جماعة، التفت إلى الوراء ليرى ويفتخر بعدد المصلين خلفه، قال شعرت لحظتها بأن الغرور قد أصابني وهو من دفعني للالتفات أثناء الصلاة، لذلك تركت صلاة الجماعة لأؤهل نفسي من جديد حتى لا اكرر فعلتي وابعد نفسي عن الانتهازية، وأنا كذلك وجدت نفسي في يوم من الأيام اهرب من حسينية الضيعة، وأنا في طريقي للجبل لحِق بي احد وجهاء القرية، وقال لي إلى أين ذاهب فالناس بانتظارك؟ فقلت له من اليوم لن أصلي معكم، فأنا اليوم متفرغ لأصلي مع شجرات العنب والتين والزيتون وبطلت الصلاة معكم، لأنه بطبيعتي اكره الرسميات والروتين وأكره الفصل بين الشيخ والجماعة.

 زراعة التبغ والزيتون

* من ضيعة “جب شيت” وهي مهد الولادة في الجنوب اللبناني إلى الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ما هي أهم محطات تلك الرحلة الطويلة؟

– ولدت عام 1946 في ضيعة تسمى “جب شيت” والجب بالعربية هو البئر ، وكان اسمها في السابق كفر عين لكنها اندثرت وتحولت إلى قرية جب شيت التي كان فيها قبر يعود للنبي شيت كما يقال، وكانت مقرا إداريا وماليا للحملة الفرعونية، والضيعة في الجنوب اللبناني، وهي مشهورة بزراعة التبغ، وأيضا بزراعة جميع أنواع النصب وهي الشتول، كالعنب والزيتون والورود بأنواعها، وجميع الأنواع الغربية والشرقية من الشتول.

ولدت في غرفة من الطين

* وهل لا يزال بيت العائلة هناك؟

– نعم. لا يزال ومنذ 60 عاما قام بتعميره والدي وهو موجود هناك، ولدت في غرفة من الطين لا يملكها والدي وإنما تعود لإحدى عوائل القرية، لأن والدي تزوج قبل أن يبحث عن سكن شأنه شأن أولاد القرى في ذلك الوقت، وتلك الغرفة ظلت عالقة في ذاكرتي، واعشقها جدا وكنت أزورها دائما ، إلى حين تحولت الى كونكريت فكرِهتها لأن كل ما هو جميل فيها ذهب ، بعدها انتقلنا إلى القرية التي أنجبت العديد من الأسماء منها على سبيل المثال الشيخ علي الزين وهو جد الصحافي احمد علي الزين والشيخ علي، أديب، ومؤرخ مميز، ومنها أيضا الشهيد راغب حرب وهو رفيق، وصديق اعتز جدا بصحبته، وهو جزء من أسرتي.

ميكانيكي وخياط

* أول كتاب قرأته في أول سلم المعرفة ولا يزال في الذاكرة؟

– دخلت المدرسة الابتدائية وعمري ست سنوات، وأول كتاب سقطت عليه عيني هو كتاب الأطفال درج عرج، وما زال في الذاكرة لونه صفحاته وأحرفه، والصور البسيطة التي فيه معششة في المخيلة لا تغادرني، وكانت مدرسة طينية ولكن احد أثرياء الضيعة قام ببناء مدرسة حديثة وبنى فيها ملعبا، ثم أكملت الابتدائية في النبطية، وبعدها أنا عطلت لمدة سنة، والسبب أن أولاد خالي ذهبوا إلى بيروت للعمل فيها كميكانيكيين، فأقنعت العائلة بالذهاب معهم، وبالفعل ذهبت ولكني لم افلح أن أكون ميكانيكيا، وفي نفس العام الذي تركت المدرسة فيه حاولت ان أتعلم الخياطة، لكني لم أتعلم إلا أشياء بسيطة من تلك المهنة.

  أغلب المدرسين من المسيح

* كنتَ تكره المدرسة؟

– لا أبدا. والدليل مع نهاية العام عدت إلى الدراسة المتوسطة التي كنت اذهب إليها مشياً على الأقدام وكذلك العودة الى البيت، سواء في الصيف ام الشتاء، ومع ذلك كنا مرتاحين لأننا نعشق المدرسة، وكان اغلب المدرسين هم من المسيح وتربطنا بهم علاقة وثيقة وجميلة، والى الآن تربطني علاقة متينة مع الأحياء منهم، ونشأت علاقة ودودة بينهم وبين أهل القرية، المهم بعد أن أنهيت المتوسطة كنت اذهب للجامع بصورة متقطعة، لأني أحيانا أصلي وأحيانا لا، وأصوم في رمضان بصورة متقطعة، فقال لي احد الحجاج في الجامع، أنت يجب أن تذهب للدراسة في النجف، وكان ذلك تحديدا في العام 1961، ولكن أثناء العطلة ذهب والدي إلى بيروت ليشتغل عاملا، وقمنا باستئجار غرفة عند امرأة، وكانت في بيتها حديقة تزرع فيها الخضار كالرشاد والكرفس والمقدونس والكزبرة والفجل والكراث والبصل، وكنت اقضي فترات طويلة بمساعدتها، وكنت مسلياً لها، ودائما أقرأ لها عاشوراء التي أحفظها عن ظهر قلب، فكانت فرِحة بوجودي معها وهي أيضا طلبت مني الذهاب الى النجف وبالفعل ذهبت.

كتبت ما يشبه الشعر

* في ذلك الوقت وأنت تقارب العشرين من العمر ألم تلحظ وجود ميول أدبية فكرية عند الشاب هاني فحص؟

– نعم. أثناء وجودي في المتوسطة شعرت بأن لدي هوسا بالأدب، فتجدني كتبت ما يشبه الشعر، وأحيانا اكتب ما يشبه الرواية، ونتيجة لاهتماماتي الدينية كانوا في المدرسة ينادونني بالشيخ، فقمت بإطلاق لحيتي، لكن مدير المدرسة كان مسيحيا فأرسل بطلبي، وقال أنا أحب لحيتك لكن يجب أن تحلقها أثناء الدراسة، لأن اللحية هي في الجامع وخارج أسوار المدرسة وعليك أن تحلقها وبالفعل نفذت الطلب، وذهبت الى النجف في نهاية عام 1963، وصادف مع نهاية الحرس القومي أي بعد حقبة البعث الأولى، وفي تلك الفترة حصلت على شهادة الثانوية السورية بالمراسلة، ثم واصلت دراستي بالحوزة وتتلمذت على يد الشهيد عبد الصاحب الحكيم والشيخ محمد صادق الجعفري والشيخ الحلي والشيخ محمد تقي الحكيم، والسيد محمد جواد فضل الله رحمه الله ، وفي كلية الفقه درّسني السيد مصطفى جمال الدين، والشيخ عبد المهدي مطر، والدكتور عناد غزوان رحمه الله ، ومن المصريين الدكتور عبد الله درويش والدكتور حسين نصار، وكذلك من أساتذتي مدني صالح ومهدي الشماع، أنهيت الكلية في 1971، وكان يجب أن أعود للحوزة لإتمام الدراسة.

  حاول البعثيّون أن يكسبوني

* خلال تلك الفترة ألم تكن لك نشاطات أدبية أو فكرية خاصة وأنت في مدينة الأدب والفكر؟

– خلال تلك الفترة كنت أتعاطى البحوث، وكنت مشرفا على مجلة تسمى “النجف” التي تعنى بالحداثة والفكر، وكتبت فيها العديد من المقالات والبحوث، وكذلك كتبت في مجلة “الكلمة” التي أسسها حميد المطبعي، وكتبت في مجال النقد، وكانت لدي العديد من العلاقات مع المثقفين العراقيين كسامي مهدي وحميد سعيد، وموسى كريدي ، وخضير عبد الأمير، وسعدي يوسف وعلي جعفر العلاق، ومجموعة كبيرة يطول ذكرها، في تلك الأثناء حاول البعثيّون أن يكسبوني إلى جانبهم، وفي أحد المهرجانات ، طلبوا مني الاشتراك فيه فرفضت، لكني تفاجأت بمجيء القائممقام الذي كان اسمه أبو علي، ومعه مدير الأمن واسمه حذيفة، وأقنعوني بالاشتراك بعد أن قالا لي إذا لم تشترك سيقوم البعثيون بزجك في السجن، وقد يتهمونك بقضايا غير أخلاقية، وبالفعل بعد مشاورتي لأساتذتي عملت صفحة واشتركت في المهرجان، بعدها وبناءً على تحذير من ضابط الأمن حذيفة ، الذي قال لي عليك المغادرة لأنك مراقب من السلطة، وبالفعل عدت إلى بيروت.

  العراق في قلبي وبيتي

* غادرت العراق مكرهاً لكن السنوات التي عشتها فيه ماذا تمثل لك؟

– على الرغم من مغادرتي له لكني بقيت عراقيا، وأدخلت العراق في قلبي، وفي بيتي – أكلاً وشرباً – وما زلت إلى الآن انتظر موسم البرحي، وحين يأتي وأتذوقه (أنشّع) ولا يمكن أن أوصف فرحتي بوصوله، وأتكلم دائما عن صفاته وفوائده وقد (غزر) بي ذلك ليبقى دائما