Header Ad

التصنيفات

هل تريد أميركا استرجاع ملكيتها العقارية في العراق؟

طارق الدليمي

في العام 2007 كتبت الباحثة الاميركية «لندساي بيرنشتين» مقالة خطيرة في «ان ذيس تايمز» حول دور العلماء الاميركيين في دعم الحروب التي تشنها الولايات المتحدة وتحديدا في منطقة «الشرق الأوسط» ومنها افغانستان والعراق، وكذلك الاسناد الذي تقدمه إلى اسرائيل في حروبها العدوانية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني. وأشارت باستفاضة مدهشة إلى أن هذا الدور له طابع مدرسي «تاريخي»، ومنذ أن برعت اميركا في خططها في احتلال مناطق مهمة من العالم. بل تجزم هذه الباحثة بأن الكثير من هذه العلوم «الميدانية» قد «تطورت» من خلال الحروب والاحتلالات الاميركية المعادية للشعوب وطموحاتها المشروعة في التقدم والازدهار.
وتعقيبا على ذلك يعتقد المحلل الاميركي «جوشوا هولاند» أن الهموم الجوهرية «للمؤسسة الاميركية» كانت دائما تتركز حول فكرة حادة في أذهان مخططيها، وهو الرفض القاطع لاتهامات عديدة لاميركا بكونها دولة «امبريالية»، وهو ما يحكى على جرب الكثير من الليبراليين العرب عبيد تطور البناء البطيء سابقا وغلاة التغيير الراديكالي حاليا. وقد سلكت اميركا بالعكس لتؤكد هذه الاتهامات بل لترجع القهقرى إلى حواضن المصطلح التقليدي ـ الاستعمار الكولونيالي البدائي والمسمى – paleocolonialism- وهو يتضمن برنامج إعادة «صياغة» الحياة الاجتماعية للدول المحتلة ومصادرة «ملكياتها العقارية»، ومنها ثرواتها الطبيعية، ودفعها إلى نسيان هويتها القومية والبدء «بالارتقاء» في سلم المنظومة الاميركية للديموقراطية وإعادة بناء الأمم. وكانت الفكرة الأساسية في:
1/ الاحتلال ـ الاقلاع: هي «الصدمة والترويع ـ shock&awe».
2/ استمرار الاحتلال تحت لافتات متعددة ومزورة: هي «الترغيب والترهيب ـ bait&switch» ومحاولة عنونة هذه الأقسام بمسميات متناقضة للايحاء دوما بعكس النيات الاستعمارية البغيضة.
أما الخبير السياسي الاميركي «روبرت باري» فقد قال أيضا ان البرنامج اليومي للاحتلال العسكري في افغانستان والعراق كان يشمل دائما في فقراته العليا: إلقاء القبض على ذكور «العمر العسكري» من المجتمع ومنعهم بشتى السبل من الانخراط في تيار «المقاومة» الوطنية أو النشاط خارج إطار برنامج «إعادة الاعمار» المشين.
ويمكن القول، بالرجوع إلى الوثائق المركزية لسلطات الاحتلال، منذ العام 2003 ولحد الآن ان المراحل المختلفة للاحتلال قد تبدو متباينة من خلال عناوينها الرئيسية ولكنها متشابهة في التطبيق إلى درجة مفزعة وخاصة حين تطرح أسئلة من النوع «الذي لا يستطيع المحتال أن يجيب عنها بشكل صحيح». إن التنوع في التفاصيل يستدعي التركيز على المفاصل بين حقبتين: الأولى ـ «سلطة الائتلاف الموقت» بقيادة «بول بريمر» من نيسان 2003 إلى حزيران 2004. وهي الفترة التي تم فيها النهب العام جهارا نهارا. والثانية: سلطة المراقب العام للاعمار» بقيادة «ستيوارت بوين» من تشرين الأول 2004 ولحد الآن. والتي يحصل فيها السلب والنهب بطرق مستورة، وضاعت فيها المئات من مليارات الدولارات تحت إشراف الكونغرس الاميركي المسؤول المباشر والتشريعي عن سلطة «المراقب العام» وأجهزته الادارية والمالية.
ولقد كانت مرحلة «الصدمة والترويع» من خلال «هارلان اولمان وجيمس ويد» هي السيطرة الشاملة على «البيئة» والقيام بشللها، والهيمنة على المشاعر والأحاسيس للناس ودفعهم إلى فقدان القدرة على المقاومة في المستويات التكتيكية والاستراتيجية. وإذا ما حاولت بعض القوى «الحية» في المجتمع أو بقايا «الدولة الوطنية» العمل خارج هذه الدائرة، فالجواب هو الاستئصال المباشر وغير المباشر، وسيحصل بكل الأساليب المتوفرة في البرنامج. وهذه تتضمن إلغاء أو تحوير «المواقع الفكرية» و«المواقف العقلية» تمهيدا لتحطيم «البنية التحتية» للاجتماع السياسي، ومنع بقايا «الدولة» من القيام بأي خطوة لأنقاذ ما يمكن إنقاذه في ميادين من نمط : الماء، الغذاء، المواصلات… إلخ.
ويعتقد «المتابع السياسي» جويل ونغ /2009 أن الخطط الأساسية التي وضعت لاحتلال العراق قد بدأ كتابتها منذ تشرين الأول عام 2001، وأنها كانت تشمل تفاصيل عديدة منها إعادة «الاعمار» وتشكيل الفرق والمجموعات والأطر التنظيمية لاستيعاب هذا البرنامج، وأن من جملة هذه الفقرات تتضمن ميادين النفط والكهرباء وإعادة بناء الجيش والشرطة. والطريف أن هذا الكاتب يؤكد في حزيران ـ 2012 أن كل هذه القضايا لم تتحقق لحد الآن. فالشرطة عاجزة عن مواجهة الارهاب، والبنية التحتية «النفطية» لم تتجدد في سياق الاستخراج المباشر والسرقة العلنية والسرية للنفط العراقي. أما الكهرباء فهي ما زالت غير قادرة على خدمة المواطن بمعدل لا يتجاوز أربع ساعات يوميا. ويسأل «ونغ» أيضا أين ذهبت هذه المليارات؟
ويمكن النقاش في هذا الموضوع بصورة سياسية أكثر منها «مهنية إعمارية» إذا أخذنا بنظر الاعتبار بعض المقاربات الفكرية الملموسة والكيفية التي تصرفت بها وما فتئت سلطات الاحتلال وهي تواجه النموذج العراقي في الخنوع والمقاومة
. فمن الناحية التطبيقية يبدو أن «الخيار الأول» الاميركي دائما هو الخيار الخطأ.! ويظن القيمون على الأمور في واشنطن أن هذا الخيار سيكون التربة الموضوعية لخلق الظروف المناسبة نحو الخيار الثاني الصحيح.! بيد أن المقارنة بين الجهود التي بذلها «الاستبداد السياسي» للدولة الوطنية السابقة للاحتلال في خططه «إعادة الاعمار» أثناء الحروب والحصارات، وبين ظروف العمل التي باشر بها الاحتلال الاميركي في برنامج «إعادة الاعمار»، فلا بد من أن نشير ليس إلى نجاح الأول وإخفاق الثاني فحسب، وإنما أن «النجاح والفشل» معا يستندان إلى قاعدة واحدة في الفعل «السياسي» لاستبداد «الدولة الوطنية» واستبداد «حكومة الوكالة» الاحتلالية ولكن من منظور تاريخي مفارق ومتناقض، تقود نتائجه المغايرة إلى طريقين متنازعين بين تيار السيادة الاعمارية وتيار الوكالة البنائية. بمعنى آخر أن المشكلة الحقيقية «للاستبداد الوطني» ليس أنه ذهب بعيدا، وإنما لأنه لم يذهب بعيدا بما فيه «الكفاية» «نوعيا» وهي مسألة كان «الاستبداد الاحتلالي» متميزا فيها «كميا» لكنه من الزاوية المعادية أخفق فيها تاريخيا وبصورة فائقة.
 والسؤال الذي لا تمكن الاجابة عنه: هل يقدر العقل العراقي المبدع أن يعمل في ظروف انعدام الكهرباء؟ أو كيف يستطيع الحفاظ على «قدراته» العقلية في مناخات معادية تماما من نمط التآمر اليومي وتكلس «البيروقراطية» الاحتلالية ونخب المحاصصة الطوائفية والاثنية وجشعها غير المحدود. وهل محطات «الدوش المائي» العام في زوايا الشوارع البغدادية تشكل بديلا حضاريا وإنسانيا لتدمير الطاقة وسيادة الارهاب الدموي وسطوة المناخ القاسي في الصيف العراقي القاري؟
إن الدستور والانتخابات والديموقراطية «الاحتلالية» هي «بقرات مقدسة» لدى منظومة الاحتلال وأفكار «الليبرالية المتوحشة» الساعية إإلى إعادة احتلال العالم وتثبيت «الباليوكولونيالي» الاميركي الجديد. وهذه المدرسة الفاشية والفقيرة تتجاهل كليا أن «الثورة المضادة» للاحتلال لا تختلف في قوانينها الموضوعية عن «الثورة» الوطنية بمفهومها التاريخي الشامل، وأنها لن تكون لديها الفرص لتأسيس التغيير الحقيقي بدون قطيعة مادية حقيقية مع الماضي. فكيف وهي دأبت، لحد الآن، على إعادة المجتمع وتنظيماته إلى الحقب السابقة للتطور الرأسمالي العام؟ فهل تقدر «المكونات» القبلية والدينية والطائفية والاثنية على أن تؤدي دور الروافع اللازمة للتطور المنشود؟ لقد تساوقت وتعاشقت رغبات «الاحتلال» بعد تدمير «الدولة الوطنية» مع «غرائز» المكونات بالحنين «الطفولي» إلى القديم الديني ـ القبلي والعمل الجامح لاسترجاع أفكاره النمطية للسيطرة الشاملة على الحاضر والمستقبل!
من هنا فمن الصعوبة مناقشة الدور المركزي لحقبة «بريمر» لاعطاء الأهمية الجوهرية «للمكونات»، بصورة مستقلة عن الوظيفة «الحقيقية» لحقبة «بوين» ونشاطها المتواصل في الهدم «الاجتماعي» والنفاق في إصدار المطبوعات الدورية في شرح العثرات ونقد الأخطاء وبأسلوب ملفق ومزيف! وإذا كانت المعادلة التقليدية بأن «الكهرباء زائدا المكننة» تؤدي إلى التطور الاجتماعي الصاعد وتفرض وجوب إنشاء صيغ «ديموقراطية» تنظيمية مهمة من أجل الحفاظ وتطور المكتسبات الرائدة، فإن المعادلة القائمة الآن، منذ الاحتلال الاميركي، هي أن «انهيار الأمن زائدا نقص الكهرباء» سيقودان قطعا إلى تدمير البلاد والعباد وبقاء الاحتلال لعقود قادمة ضمن برامج عديدة كاذبة منها «إعادة الاعمار» أو «اتفاقية الاطار الاستراتيجي» التي تمسك بخناق الجميع.
وبالرغم من الكتابات اليمينية المتردية التي تظهر بين الفينة والأخرى، وخاصة لدى بعض الأقلام العراقية الاكاديمية، ومنها بحوث الدكتورة سميرة الحاج، لكنها في المستوى نفسه من المساجلة المغلقة تضطر الى أن تعترف بأن «الصراع» الذي خاضته اميركا في منطقة «الشرق الأوسط» منذ العام 1911 تقريبا، كان يجري في ميادين «استرجاع الملكية العقارية» على الصعد العالمية والاقليمية، وأن الاندفاع الاميركي كان مبتذلا وبطيئا في البداية لكنه بدأ يتسارع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ووصل إلى ذروته في لحظات بداية فقدان حيويته وضمور مقاومته لتراجع سطوته السياسية وهيمنته الاقتصادية السياسية للرأسمالية المعولمة.
إن الولايات المتحدة تحاول استعادة «الملكية العقارية» للسلطنة العثمانية وبالتعاون مع حليفتها اسرائيل وعميلتها تركيا ودول الخليج العربية، التي تحولت ضمن قانون «الأمر الواقع» إلى دول اتفاقية سايكس ـ بيكو ـ سازاناوف 1916. إن عقيدة «استرجاع الملكية العقارية» تأخذ أشكالا مختلفة منها «المجالات الحيوية» أو «حقول الطاقة النفطية» أو «ممرات الأنابيب العملاقة» للنفط والغاز أو «حدود وتخوم» شبكات التهريب الدولية للأسلحة والمخدرات والأفكار الأصولية «الكوزموبوليتية» وترعاها اميركا والحلف الدولي بين «المجمع الصناعي العسكري» العالمي وشركات النفط العملاقة وفي مقدمتها «اكسون موبيل» التي قال عنها أحد قادة المحاصصة البريمرية في العراق، انها تعادل عدة فيالق من الجيوش الجرارة العصرية.